التسويق في عصر ما بعد الكوكيز.
في عالم يتسارع فيه التطور الرقمي وتتزايد فيه المخاوف المتعلقة بالخصوصية، نشهد تحولاً جذرياً في مشهد التسويق الرقمي. هذا التحول يُعرف بـ عصر ما بعد الكوكيز، وهو يمثل تحدياً وفرصة في آن واحد للمسوقين والعلامات التجارية. فمع اقتراب نهاية الاعتماد على ملفات تعريف الارتباط الكوكيز من الطرف الثالث، أصبح من الضروري تبني استراتيجيات جديدة وأكثر ابتكاراً لاستهداف الجمهور بفعالية مع احترام خصوصية المستخدم.
ما هي الكوكيز ولماذا تتغير؟
لفهم هذا التحول، يجب أن نعرف أولاً ما هي الكوكيز. ملفات تعريف الارتباط Cookies هي ملفات نصية صغيرة تُنشئها مواقع الويب وتُرسلها إلى متصفح المستخدم. وظيفتها الأساسية هي تخزين معلومات تعريفية بسيطة، مثل تفاصيل تسجيل الدخول، تفضيلات اللغة، أو سلوك التصفح داخل الموقع. تساعد هذه الملفات على تذكر عناصر سلة التسوق أو تخزين حالة التسجيل دون الحاجة لإعادة إدخال المعلومات في كل مرة.
تنقسم الكوكيز إلى نوعين رئيسيين:
· كوكيز الطرف الأول First-party cookies: هي الملفات التي يُنشئها الموقع الذي يزوره المستخدم بشكل مباشر. تُستخدم هذه الملفات لتحسين تجربة الزائر على نفس الموقع، كتذكّر عناصر سلة التسوق أو تخزين حالة الدخول. تنقسم بدورها إلى كوكيز الجلسة تختفي عند إغلاق المتصفح وكوكيز دائمة تبقى مخزونة على الجهاز لفترة أطول وتتطلب موافقة المستخدم.
· كوكيز الطرف الثالث Third-party cookies: هي الملفات التي تُنشئها جهة خارجية لا تتبع الموقع الذي يزوره المستخدم. على سبيل المثال، عند ظهور إعلان لخدمة Google AdSense على أي صفحة، فإن جوجل تُنشئ ملف كوكيز خاص بها لتتبع نشاط المستخدم في مواقع عدة. تجمع هذه الملفات معلومات سلوكية، مثل الصفحات التي تمت زيارتها والمحتويات المفضلة، وتُستخدم في إظهار إعلانات مخصصة تناسب اهتمامات المستخدم.
لماذا تثير كوكيز الطرف الثالث القلق؟
على الرغم من دورها المحوري في التسويق الرقمي لعقود، أصبحت كوكيز الطرف الثالث تثير قلقاً متزايداً بسبب مخاوف تتعلق بالخصوصية. قد تُستخدم هذه الملفات بطرق تسيء إلى حق المستخدم في السرية، مما يؤدي إلى ظهور إعلانات متكررة أو مزعجة، وفي أحيان كثيرة غير متصلة باهتماماته الفعلية. بناءً على ذلك، بدأت المتصفحات الرئيسية مثل Safari وFirefox، وقريباً Chrome، بحظر كوكيز الطرف الثالث بشكل افتراضي، مما دفع المسوقين وشبكات الإعلان إلى البحث عن بدائل تحترم خصوصية المستخدم.
القوانين الجديدة وتحديات خصوصية البيانات
شهدت السنوات الأخيرة تشدداً كبيراً في لوائح حماية البيانات عالمياً. يعتبر الاتحاد الأوروبي رائداً في هذا المجال، حيث تشكّلت البنية التشريعية لخصوصية المستخدم على أساس لائحة العموم لحماية البيانات GDPR التي دخلت حيز التنفيذ منذ عام 2018. تتطلب هذه اللائحة الحصول على موافقة صريحة ومسبقة من المستخدم قبل تخزين أي بيان على جهازه، خاصة في حالات استخدام ملفات الكوكيز.
وفي الولايات المتحدة، دخل قانون حقوق الخصوصية في كاليفورنيا CPRA حيز التنفيذ في عام 2023، والذي يخول المستهلكين حق الرفض الصريح لبيع أو مشاركة بياناتهم الشخصية. كما أصدرت دول أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة قانون حماية البيانات الشخصية الاتحادي PDPL في يناير 2023، والذي يشترط موافقة صريحة ومسبقة قبل معالجة أي بيان شخصي لغرض التسويق. هذه القوانين تفرض على الشركات توفير شفافية كاملة في طريقة جمع واستخدام البيانات، وتجعل الانتقال إلى التسويق بدون كوكيز ضرورة لا خياراً.
استراتيجيات جديدة لاستهداف الجمهور بفعالية
مع غياب كوكيز الطرف الثالث، ظهرت استراتيجيات وأدوات جديدة تساعد العلامات التجارية على تنفيذ حملات استهداف فعّالة دون التضحية بالدقة أو النتائج. هذه الاستراتيجيات تركز على بناء علاقة مباشرة مع العملاء واحترام خصوصيتهم:
· البيانات الأولية First-Party Data: تُعد الركيزة الأساسية في عصر ما بعد الكوكيز. تُجمع هذه البيانات مباشرة من المستخدم عبر تفاعلاته مع الموقع أو التطبيق، مثل عمليات الشراء، التصفح، أو الاشتراك في النشرات البريدية. باستخدام هذه البيانات، يمكن للعلامات التجارية بناء ملفات تعريف دقيقة للعملاء، مما يسمح بإعادة استهدافهم بطريقة شخصية وأكثر فعالية. أدوات مثل Google Analytics 4 GA4 و CustomerLabs CDP تتيح تعقب سلوك المستخدمين داخل الموقع بطريقة تحترم الخصوصية .
· الاستهداف السياقي Contextual Targeting: يعتمد هذا النهج على المحتوى الفعلي الذي يشاهده المستخدم في الوقت الحالي بدلاً من تاريخ تصفحه السابق. على سبيل المثال، إذا كان المستخدم يقرأ مقالة عن السفر، فيمكن عرض إعلان عن حقيبة سفر أو عرض رحلة. هذا النوع من الإعلانات يكون ذا صلة عالية باللحظة الحالية، مما يزيد من احتمالية التفاعل، دون الحاجة لتخزين أي بيانات عن المستخدم . أدوات مثل GumGum أو Peer39 تساعد في تحليل محتوى الصفحة وعرض الإعلانات في سياق متوافق.
· القوائم المخصصة من العملاء الحاليين Custom Audience Lists: يمكن للعلامات التجارية الاستفادة من قوائم عملائها الحاليين، مثل عناوين البريد الإلكتروني أو أرقام الهواتف. يمكن رفع هذه القوائم إلى منصات الإعلان مثل Meta وGoogle، والتي بدورها تطابق هذه البيانات مع مستخدميها وتعرض الإعلانات للأشخاص المطابقين، دون الكشف عن هويتهم. هذه الطريقة فعّالة جداً، خاصة عند استخدامها في حملات لإعادة التفاعل مع عملاء لم يكملوا عمليات الشراء أو تخلوا عن سلة التسوق .
· أنظمة تسجيل الدخول Login Systems: عندما يسجل العميل دخوله باستخدام بريد إلكتروني أو حساب Google/Facebook، يمكن ربط نشاطه عبر الجلسات والأجهزة المختلفة. هذا يعيد دقة التتبع التي كانت توفرها الكوكيز، ولكن بشكل أكثر شفافية وموافقة صريحة من المستخدم .
· التسويق عبر البريد الإلكتروني Email Marketing: لا يزال التسويق عبر البريد الإلكتروني أداة قوية لإعادة الاستهداف. من خلال تحليل تفاعلات المستخدمين مع الرسائل، يمكن تصميم حملات مخصصة تذكرهم بالمنتجات التي شاهدوها أو العروض التي قد تهمهم. عند دمج هذه الاستراتيجية مع أدوات الأتمتة مثل Mailchimp أو Klaviyo، يمكن إرسال رسائل ذكية في الوقت المناسب بناءً على سلوك المستخدم .
· استخدام الذكاء الاصطناعي AI والتعلّم الآلي Machine Learning: بدلاً من تتبع المستخدم عبر مواقع متعددة، يمكن تحليل كيفية تفاعله مع صفحات المنتجات، العروض، وأزرار الشراء ضمن الموقع نفسه. ومن ثم، يمكن تقديم توصيات مخصصة أو عروض ديناميكية داخل الموقع في الجلسة التالية بناءً على هذا التحليل .
إن عصر ما بعد الكوكيز ليس نهاية التسويق الرقمي، بل هو بداية لمرحلة جديدة تتطلب من المسوقين أن يكونوا أكثر إبداعاً وتركيزاً على بناء الثقة مع الجمهور. من خلال تبني استراتيجيات تعتمد على البيانات الأولية، والاستهداف السياقي، والتواصل المباشر، والاستفادة من التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، يمكن للعلامات التجارية أن تواصل استهداف جمهورها بفعالية وتحقيق النجاح في بيئة رقمية تحترم خصوصية المستخدم بشكل أكبر.
إضافة تعليق جديد